«التوافق» سلاح بحدين، إذ قد يكون مفتاحا للتصالح والوئام، وقد يكون حزمة ألغام لا تتوقف عن الانفجار طول الوقت. حتى أزعم أنه يعد أحد العناوين الأكثر التباسا وغموضا فى الحياة السياسية. ذلك ان أحدا لا يستطيع أن يجهر بأنه ضد «التوافق»، ولكن الخلاف يمكن أن يظهر والاشتباك يمكن أن ينطلق إذا حاولنا الإجابة على السؤال: التوافق مع من وحول ماذا؟. الأمر الذى يذكرنا بشعار «الحوار» الذى تردد فى الفضاء السياسى يوما ما، ولم يستطع أحد أن يرفضه فى حينه، إلا أننا اكتشفنا لاحقا أن باسمه أريد أن نساق إلى التطبيع مع إسرائيل من خلال الجلوس حول مائدة «الحوار». وأذكر أننى تعرضت لموقف من ذلك القبيل، فما كان ممن دعانى إلا أن قال: هل أنت ضد الحوار؟ ــ وتطلب الأمر منى شرحا مطولا لكى أقنعه بأن الحوار مع الغاصب والمحتل له أساليب عدة، ليس من بينها الجلوس حول طاولة الحوار إبان احتدام المواجهة.
ما أفهمه أنه يستحيل التوافق مع كل أحد، لسبب جوهرى هو أنه يستحيل إرضاء الجميع، لكنى أزعم أن الحوار الايجابى هو ذلك الذى تتوفر له ثلاثة شروط. الأول أن يتم بين القوى الرئيسية التى تمثل الأغلبية فى المجتمع، والثانى أن يتم على أرضية الثقة المتبادلة بين تلك القوى. أما الشرط الثالث فهو أن يسفر التوافق عن طمأنة الرأى العام واستقرار السلم الأهلى. إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة فى مصر على الأقل، ذلك أن تعريف القوى الرئيسية ليس متفقا عليه، لأن الفضاء السياسى فى مرحلة ما بعد الثورة بات حافلا بالعناوين واللافتات الجذابة والرنانة، التى لا علاقة لها بالأوزان على الأرض. وحين اختبرت تلك العناوين فى الانتخابات التشريعية، فإن ذلك لم يوقف اللغط والحيرة والضجيج. خصوصا بعدما فازت الفصائل الإسلامية بأكثر من 70٪ من مقاعد مجلس الشعب. ورفع وتيرة اللغط والحيرة أن تلك الفصائل ــ الإخوان المسلمون تحديدا ــ خسرت فى المرحلة الأولى من الانتخابات الرئاسية نصف الأصوات التى حصدتها فى التشريعية. وبدا أن الجماعة فى موقف أضعف نسبيا مما كانت عليه قبل أربعة أشهر. وذلك مما رفع من أسهم أحزاب الأقلية التى نازلتها وتحدَّتها فى تشكيل اللجنة التأسيسية للدستور، مستثمرة فى ذلك الخطأ الذى حدث فى التشكيل الأول للجنة، حين أرادت أحزاب الأغلبية فى البرلمان أن تحتفظ بأغلبيتها داخل لجنة الدستور. وهو ما لم يكن مقبولا ولا مفهوما.
فى هذه الأجواء برز شعار «التوافق» الذى بدا مخرجا منطقيا وضروريا من الأزمة. وحين قطعت المشاورات بين القوى السياسية شوطا بعيدا باتجاه الاتفاق حول تشكيل لجنة الدستور، فان أحزاب الأقلية ذات الوزن الانتخابى المتواضع نجحت فى التشويش على عملية التوافق وحاولت تعطيلها، مستندة فى ذلك إلى أحد عناصر القوة المؤثرة فى المشهد السياسى، وهو الإعلام. ذلك أن الذين تابعوا الاجتماعات التى سبقت الإعلان عن تشكيل لجة الدستور لاحظوا أن الإعلام تحول إلى قوة ثالثة فى التجاذب الحاصل بشأن التشكيل، والذى كان فى جوهره من تجليات الاشتباك بين قطبى المواجهة الحاصلة فى الساحة السياسية المصرية، وهما الإسلاميون من جانب والعلمانيون من جانب آخر.
ولعلى لا أبالغ إذا قلت إنه إزاء تنامى قوة الإعلام فإن قيمة الجماعات السياسية خصوصا فى مجتمعات العالم الثالث، التى ترتفع فيها معدلات الأميِّة، لم تعد تقاس بالضرورة بمعيار حضور تلك الجماعات على أرض الواقع، ولكنها باتت تقاس أيضا بمدى انتشارها فى وسائل الإعلام، لذلك شاع القول بأنه لم يعد مهما كثيرا ما إذا كنت قويا أو ضعيفا فى الشارع، بل لا يهم ما إذا كنت مصيبا أم مخطئا، لأن الأهم دائما هو ما يقوله عنك الإعلام، والصورة التى يرسمها لك فى أذهان الناس.
قوة الإعلام وضعتنا أمام تحد جديد. ذلك انها باتت تقدم لنا أحزابا وهمية وزعامات وهمية، الأمر الذى يؤدى إلى استقوائها، بما يدفعها إلى ابتزاز القوى الحقيقية وإضعاف مكانتها، ومن ثم إقامة العقبات أمام مساعى التوافق المرجو.
أغلب الظن أن ذلك الخلل وثيق الصلة بمرحلة الفراغ السياسى التى تعانى منها مصر بعد سقوط النظام السابق، الذى لم يصادر السياسة فحسب ولكنه أيضا أفسد المناخ السياسى، وظل معتمدا على الأحزاب الصورية والوهمية طول الوقت. يشهد بذلك ان الانتخابات التشريعية الأخيرة بينت لنا أن كل الأحزاب التى كانت «شرعية» طوال الثلاثين سنة الماضية، اختفت ولم يعد لها وجود، فى حين كان الفائز الأكبر فى تلك الانتخابات هو «الجماعة المحظورة».
هذه الخلفية تسوغ لنا أن نقول إن ابتذال التوافق فى الوقت الراهن وثيق الصلة بالمرحلة الانتقالية التى تمر بها، وان تقدم مصر على طريق الديمقراطية الحقيقية كفيل بضخ دماء جديدة فى الحياة السياسية، تسمح بإقامة توافق حقيقى يقوم على الثقة المتبادلة، المطلوبة لتحقيق الانطلاق نحو المستقبل.
فهمى هويدى